“مفوضية الإنتخابات الجديدة في العراق وأهمية إستقلاليتها”
مع دخول الإحتجاجات في العراق شهرها الثالث، استطاع هذا الحراك الجماهيري الواسع أن يدفع الأحداث بإتجاهات جديدة لم يعهدها المشهد السياسي العراقي منذ 2003، فمن أهم المعطيات التي أنتجتها هذه الإحتجاجات، هي ترسيخ فكرة ان الشعب ما زال هو اللاعب الأقوى في الميدان، على الرغم من عوامل القوة وأوراق الضغط التي يمتلكها المتحكمين بالسلطة في العراق. حيث تمكنت هذه الإحتجاجات الشعبية من اجبار الحكومة العراقية برئاسة عادل عبدالمهدي على تقديم استقالتها في 29 تشرين الثاني 2019، بعد اتساع رقعة المظاهرات وفقدان ارواح كثيرة نتيجة التصادمات التي تخللتها، وبعد مشاركة المواطنين من مختلف الفئات فيها، حيث يشترك في هذه الإحتجاجات الطلبة والعشائر والفنانين، فضلاً عن دعم المرجعية الدينية العليا لهذه الإحتجاجات ومطالبها، المتمثلة بالقضاء على الفساد والبطالة والمحاصصة. على الرغم من تقديم الحكومة العراقية استقالتها، وانتهاء المدة القانونية الخاصة بتكليف رئيس وزراء جديد وتشكيل حكومة جديدة، التي نص عليها الدستور العراقي، إلا انه الاحزاب المتنفذة في المشهد السياسي، لم تستطع ترشيح شخصية سياسية لمنصب رئيس الوزراء تكون مقبولة جماهيرياً. حيث ان الاسماء التي طرحت من هذه القوى السياسية لتولي منصب رئيس الوزراء، لم تأت من خارج نطاق نفوذ الأاحزاب التي أثبتت فشلها، وعدم قدرتها على تحسين الخدمات ومحاربة الفساد، كما أثبتت تلك القوى والأحزاب بأنها لم تكن بمستوى الاحداث الجارية في بغداد والمحافظات الجنوبية، ولم تستوعب جيداً معطيات تلك الأحداث وخطورتها.
في الوقت الذي تم فيه تحقيق مطلب استقالة الحكومة، وعدم قدرة الاحزاب الحاكمة (لحد الآن) من الإتفاق على شخصية وطنية مستقلة تحظى بقبول الجماهير، لترشيحه لمنصب رئيس الوزراء، تم تمرير قانون المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، في جلسة تصويت في البرلمان العراقي في 5 كانون الاول 2019. بموجب المادة الثالثة من هذا القانون يتكون مجلس المفوضين من تسعة أعضاء، خمسة منهم من القضاة من الصنف الأول، يختارهم مجلس القضاء الأعلى من بين مجموع المرشحين من قضاة المناطق الإستئنافية في عموم العراق (باستثناء إقليم كوردستان)، مع مراعاة عدالة الإختيار بين جميع المناطق الاستئنافية. واثنان من مجلس المفوضين المرتقب سيكونون من قضاة الصنف الأول، الذين يختارهم مجلس القضاء الأعلى، من القضاة المرشحين الذين يرسلهم مجلس القضاء في اقليم كوردستان، مع مراعاة عدالة توزيعهم على المناطق الاستئنافية في الإقليم. الاثنان المتبقيان من مجلس المفوضين المقبل سيكونون من المستشارين الأعضاء في مجلس الدولة، والذين سيتم ترشيحهم من مجلس الدولة، وسيختارهم مجلس القضاء الأعلى. كما نص قانون المفوضية الجديدة على مراعاة تمثيل المرأة بين الأعضاء الجدد لمفوضية الإنتخابات. في 23 كانون الأول 2019 تم إختيار المفوضين في مجلس القضاء الأعلى عن طريق القرعة، وبحضور ممثلية الأمم المتحدة ووسائل الإعلام ومنظمات المجتمع المدني والنقابات.
كتشريع يمكن إعتبار هذا القانون موفق، لكن من الممكن ان تواجهه مجموعة من المعوقات. من الأمور المهمة التي يجب ايضاحها، والتي من الممكن ان تعد ضرورية في أي بحث او مقال يتناول المؤسسات المسؤولة عن اجراء وتسيير الإنتخابات في اي بلد، هي درجة إستقلالية هذه المؤسسات. حيث أن عملية ادارة الانتخابات الرئاسية او البرلمانية والمحلية، والنظر في الطعون الخاصة بها، تجرى في معظم البلدان من مؤسسات مستقلة. وان طبيعة وظيفة هذه المؤسسات تجمع صفة الإدارة مع القضاء. لذا فأن استقلالية هذه المؤسسات تحتل اهمية بالغة، بحيث لا يمكن ان تنجح اي ديمقراطية في اي بلد مهما كان وعي المواطن فيه عالياً، من دون استقلالية هذه المؤسسات. ولأهمية وظيفة المفوضية العليا المستقلة للإنتخابات، نجد ان استقلاليتها مضمونة دستورياً. كما ورد تأكيد هذه الإستقلالية في المادة الاولى من قانون المفوضية الجديدة، التي نصت على إستقلالية المفوضية مالياً وإدارياً، لكن هذا لا يعني انها لن تخضع لأي نوع من الرقابة، حيث ان البرلمان العراقي سيكون مسؤولاً عن رقابة مفوضية الانتخابات وأدائها.
بسبب ارتباط عمل المفوضية العليا للإنتخابات بالنظام العام، خاصة بجانبه الأمني، فان سمعة إستقلالية المفوضية يجب ان تبقى على أكمل وجه. حتى ولو كانت المفوضية تقوم بعملها بشكل قانوني، فانها ستفقد شرعيتها السياسية التي تنبع من رضا الشعب، في حالة فقدان ثقة الناخب بهذه المؤسسة. بناء على هذه الحقيقة الحساسة، يجب توخي الدقة اللازمة في تشكيل هذه المؤسسة، وفي إختيار المسؤولين عن ادارتها، حتى تنجح في كسب ثقة الجمهور. لذلك يجب ان لا يتم إختيار مجلس المفوضين على أساس طائفي أو قومي أو عرقي. في الإنتخابات السابقة، خاصة البرلمانية منها، تعرضت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات الى إنتقادات كبيرة، من قبل الأطراف السياسية المشتركة في العملية السياسية، مما عزز من عدم ثقة الجمهور بمفوضيات الإنتخابات السابقة، والتي هي من المفترض أن تكون ركيزة إستمرار العملية الديمقراطية في العراق. الملفت في القانون الجديد للمفوضية المستقلة العليا للانتخابات في العراق، انه ذكر مراعاة العدالة بين المناطق الاستئنافية، بالرغم من عدم وضوح هذه العبارة بشكل كاف، لكن التفسير الأقرب هو أن يتم إختيار الأعضاء الجدد للمفوضية بمراعاة الكثافة السكانية لمحافظات العراق. لذلك يجب تجنب تفسير هذه العبارة في إطار مفهوم المناطقية (الطائفية-القومية) الشائع في العراق ما بعد 2003، وانما هو مفهوم قانوني مرتبط بتشكيلة المؤسسة القضائية العراقية.
مثلما نجد في إستقلالية المؤسسة القضائية، وجوب أن تكون المحاكم مستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، والقضاة الذين يبتون في المنازعات يجب أن يكونوا مستقلين، فأن المفوضية العليا المستقلة للانتخابات يجب ان تكون مستقلة أيضاً، والمفوضين يجب أن يكونوا مستقلين، ويجب أن لا يخضعوا إلى أي تأثير من الأحزاب والقوى السياسية والمؤسسات الحكومية الأخرى، لان وظيفتهم لا تختلف عن إصدار الأحكام في القضاء. بقول آخر، ان العملية الإنتخابية هي عبارة عن إصدار حكم من الشعب على الحزب أو الأحزاب الحاكمة، اما بالنجاح او الفشل، وذلك من خلال التصويت لصالح أو بالضد من هذه الأحزاب، أو ربما الحكم بالفشل على العملية السياسية برمتها، من خلال عدم المشاركة في الانتخابات. بعد مارس المواطن العراقي أربع عمليات انتخابية برلمانية، أصبح يملك وعي سياسي كبير في تقييم الاحزاب السياسية، وتجسد ذلك بمقاطعة الانتخابات البرلمانية الاخيرة في أيار 2018، والتي كانت رسالة مهمة وبليغة من الشعب إلى الطبقة السياسية الحالية، كما جاء على لسان العديد من السياسيين العراقيين.
ان ضمان إستقلالية المؤسسات المهمة كمؤسسة المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، يحتاج الى جانب التشريعات القانونية نظام عام مستقر، بحيث يضمن حرية العمل لأعضاء المفوضية، والإستقلالية في إتخاذ القرارات على أساس العدالة. مهما كانت التشريعات القانونية التي تحمي وتسهل عمل مفوضية الإنتخابات موفقة، فأن عدم حصر السلاح في إطار الدولة، يبقي أعضاء المفوضية في دائرة التهديد والخطر. ولذلك حتى تكتمل مطالب المتظاهرين، المطالبين بمفوضية عليا مستقلة للانتخابات، يجب ان تعمل الدولة ايضاً على القضاء على ظاهرة انتشار السلاح، بدون ذلك، لا يمكن ضمان حرية العمل والإستقلالية لمفوضية الانتخابات. يمكن القول ان قانون المفوضية العليا المستقلة للانتخابات يمكن ان يضمن حرية إختيار المفوضين، لكن حتى تعمل هذه المؤسسة بإستقلالية تامة، بعيداً عن تأثيرات الأحزاب المتنفذة في المشهد السياسي في العراق، فإنها تحتاج الى أوضاع أمنية تضمن لها حرية اتخاذ القرارات. وإلا فمن المتوقع مع بقاء الأوضاع الأمنية في العراق على حالها، فأن المفوضية والعاملين فيها لن يستطيعوا الصمود أمام التهديدات والمخاطر التي سوف تواجهها.
بناءً على المعطيات السابقة، يمكننا القول ان إستقلالية المفوضية العليا المستقلة للإنتخابات ترتكز على أساسين: أولهما؛ حتى نضمن إستقلالية المفوضية يجب ان نضمن إستقلالية الجهات التي ترشح الأعضاء الجدد لمجلس المفوضين، مقصد الحديث هنا هو القضاء العراقي، ففي حالة اذا لم تكن الجهات القضائية التي ترشح المفوضين مستقلة، لا يمكن ان تأتي بمفوضية انتخابات مستقلة، طبقاً لمبدأ “فاقد الشيء لا يعطيه”. الأساس الثاني، هو العمل على تجريد الجهات التي تملك السلاح خارج اطار المؤسسات القانونية والرسمية للدولة من أسلحتها، بدون ذلك، فان المفوضية وغيرها من المؤسسات الحكومية سوف تبقى أسيرة لتهديدات هذه الجهات.