ضابط كركوكلي يتحدث عن مجزرة كركوك ١٩٥٩

ضابط كركوكلي يتحدث عن مجزرة كركوك ١٩٥٩

بقلم:  عزيز قادر  

“يمكنني أن أجزم بأن العلاقة بين التركمان والأكراد في المدينة كانت اعتيادية الى حد كبير حتى النصف الأول من الخمسينات ولم يعد للحقد التاريخي القديم أثر في النفوس، أو على الأقل لم يظهر بوضوح خلال التعامل اليومي، فلم تحدث أية حادثة ذات طابع سياسي أو تنافس قومي أو عرقي بين القوميتين خلال الحقبة، بل على العكس من ذلك تماماً، توثقت العلاقات عن طريق المصاهرة التي صارت واضحة وبينة وعلى نطاق واسع، وأن عدداً من الأسر والعوائل في حي إمام قاسم الذي تقطنه الأكثرية الكردية أصبحت مختلطة، أو عدد منهم بدلوا قوميتهم ليس تقرباً من مركز القوة وإنما انسجاماً مع المجتمع التركماني الودود الذي يشهد لهم بذلك كل من عاش في كركوك والمناطق التركمانية الأخرى سواء من العرب أو الأكراد أو الأشوريين أو الأرمن أو غيرهم. إذ لم يسجل التاريخ في هذه الحقبة أية حادثة عدائية تنم عن حقد تاريخي أو سياسي من قبل التركمان ضد أية فئة قومية أو طائفية من سكان المدينة.

وإن ما ينبغي الاشارة إليه هنا، أن ظهور بوادر تزايد سكاني للأكراد النازحين من القرى المجاورة إلى المدينة وإن أثار التساؤل والقلق في أوساط التركمان، حول الوضع الديموغرافي (السكاني) للمدينة والمناطق التركمانية الأخرى وما سينجم عن ذلك مستقبلاً، ولا سيما لجهة المصالح الاقتصادية والبنية الاجتماعية والسياسية والادارية، إلا أنه لم يبد رد فعل ما بحيث يعكر الأمن والاستقرار أو يخدش العلاقة بين التركمان والأكراد، سوى بادرة صدرت من أحد المحامين الأكراد يدعى نجاة خادم سجادة اعتبرت غير ودية، لفتت أنظار التركمان وزادت من قلقهم. . والحادثة باختصار هي ما يأتي:

في آب/ أغسطس من عام ١٩٥٦ نشر الموما إليه، مقالة مطولة في إحدى الصحف العراقية (لا يحضرني اسمها) اتهم فيها التركمان بالعمالة الى تركيا بشكل سافر، ودلل على ادعائه، بوجود صور فوتوغرافية للسلاطين العثمانيين ومصطفى كمال أتاتورك في معظم المقاهي والمحلات والبيوت التركمانية. . . الى آخره من الاتهامات.

لا يمكن لأحد أن ينكر وجود مثل تلك الصور في بعض المقاهي أو المحلات أو البيوت الى جانب صور أخرى للشخصيات الإسلامية كالإمام علي، والحسين، كرموز دينية وتاريخية ومن باب الاعتزاز بالانتماء القومي والمذهبي، ولكن الأمر الذي استوجب الاستنكار، اتهام التركمان جميعاً بالعمالة بالاستناد الى مثل هذا الدليل غير المنطقي وغير السليم، حيث إن تعليق صور للشخصيات التاريخية أو الدينية لا يكون دليلاً للعمالة، إذ لا يتعدى مثل هذه الأمور نطاق الاعتزاز والتفاخر بالانتماء القومي والتاريخي. على كل حال اعتبرت المقالة المذكورة أول بادرة غير ودية تجاه التركمان من قبل شخصية كردية، ولم تعتبر فردية تعبر عن وجهة نظر كاتب المقال الشخصية، وإنما اعتبرت بادرة خطيرة توحي بوجود نهج غير ودي عام، وبمثابة النار تحت الرماد.

كانت ثورة ١٤ تموز/ يوليو ١٩٥٨ حدثاً مفاجئاً للتركمان بكل معنى الكلمة، تلقوا الحدث بذهول ودهشة، إذ لم يكونوا مستعدين للتعامل الفوري معها بسبب تخليهم عن ممارسة العمل السياسي وإيثارهم العزلة االسياسية واللامبالاة ازاء تطورات الأحداث العراقية، كما بينا فيما تقدم، وقد أعطى موقفهم هذا انطباعاً مفاده عدم الرضا أو العداء للثورة، أو هكذا كان اتهام الأطراف المنافسة لهم، وذلك تأسيساً على الخلفية التاريخية وبناءً على العلاقات بين الحكم الملكي وتركيا التي كانت تعد جيدة في ذلك الوقت، بسبب مشروع زواج المرحوم الملك فيصل الثاني من (فاضلة) وهي إحدى حفيدات السلطان العثماني، ومن جراء توجهات رجال السياسة العراقيين وتأثرهم بسياسة أتاتورك واقتدائهم بها.

إلا أن تطورات الأحداث ومفرزاتها لم تدع المجال الى المزيد من اللامبالاة والسلبية، لذا فقد نشطت القيادات التركمانية التي ظهرت من بين الشخصيات التركمانية المعروفة، فوجدت نفسها مجبرة على التحرك السريع والدؤوب لمواكبة تطورات الأحداث ومتغيراتها. فباشرت على الفور باتخاذ الخطوات الكفيلة لذلك، فسارعت إلى ارسال سيل من البرقيات التأبينية لعبد الكريم قاسم ورفاقه كما أرسلت وفوداً إلى بغداد للتهنئة والتبريك وإجراء مقابلات مع الزعيم عبد الكريم قاسم والمسؤولين الآخرين.

ولما اقترب موعد احياء الذكرى الأولى لقيام الثورة، نشطت تلك القيادات لإظهار أقصى درجة من الحماس والحرص على المشاركة الفعالة للتعبير عن الفرحة والتأييد المطلق للثورة. . وكان ذلك من جهة أخرى بمثابة التعبير عن العزم والتصميم على الخروج من العزلة السياسية وموقف اللامبالاة ازاء الأحداث العراقية. ولكن ذلك وللأسف الشديد لم يرح بعض الأطراف المنافسة والكارهة لهم من الشيوعيين والأكراد.

في الأسبوع الأخير من تشرين الأول / اكتوبر ١٩٥٨، مر بكركوك المرحوم الملا مصطفى البرزاني، الذي أعاده عبد الكريم قاسم من منفاه الى الوطن مع اتباعه في الاتحاد السوفياتي. وحل ضيفاً في نادي الضباط بكركوك. وقد حضر لاستقباله أعداد كبيرة من الأكراد من القرى والنواحي والأقضية الشمالية، وفي أثناء ذلك أطلق المندسون الفوضويون هتافات استفزازية، منها ذلك الهتاف المشؤوم “كركوك مدينتنا اتركوها أيها التركمان” الذي لم يكن بالامكان هضمه أو السكوت عليه من قبل التركمان، الى جانب هتافات استفزازية أخرى مثل “يسقط الطورانيون، يسقط التركمان عملاء تركيا، عملاء شركة النفط، تسقط الرجعية. . الخ”. لذلك ساد المدينة جوّ من التوتر الشديد.

وكان للشيوعيين دور ناشط في انفجار الأحداث، ولكن كأكراد، لا كشيوعيين. ولم تكن الأهداف التي سعى هؤلاء إلى تحقيقها أهدافاً شيوعية، بل كردية. وكانت شيوعيتهم، في معظم الحالات، شيوعية سطحية. ويبدو أن ما حدث، في الواقع، كان أن الأكراد طوّعوا كل المنظمات المساعدة للحزب الشيوعي لخدمة أغراضهم، أي لخدمة نزاعهم القاتل مع منافسيهم التركمان.

كان الشيوعيون والأكراد أكثر عدداً من الضباط القوميين العرب والتركمان وكذلك الجنود الأكراد بنسبة كبيرة، عدا ضباط الصف الذين كان القوميون فيهم أكثر، وكانت النسبة العددية من الضباط والمراتب متماثلة في جميع وحدات الفرقة تقريباً.

تولى قيادة الفرقة (المسؤولة عن حماية كركوك) وكالة العقيد أسعد بابان (الكردي) قبل التحاق العميد الركن داود الجنابي (الشيوعي) الذي جرى تعيينه قائداً للفرقة.

أصدرت الفرقة قائمة باسم (١٠٢) ضابط من القوميين العرب والتركمان من مختلف الرتب احالة إلى مديرية الادارة في بغداد، بذلك فرغت وحدات الفرقة من العنصرين تقريباً، عدا بعض الضباط الذين اعتبروا أقل تطرفاً أو نشاطاً ممن أحيلو إلى إمرة الادارة، ولحاجة الوحدات إليهم لادارة أعمالها وعلى أدنى مستوى. وعليه لقد حقق الشيوعيون والأكراد السيطرة الكاملة على جميع الوحدات وقيادة الفرقة في كركوك والحاميات الأخرى، وحيث أصبح جميع آمري الوحدات من الأكراد والشيوعيين وكذلك المناصب الهامة والحساسة في مقر الفرقة منهم: العقيد أسعد بابان وكيل القائد، والعقيد محمد علي كاظم الخفاجي (الشيوعي) مدير ادارة الفرقة، والعقيد عبد الرحمن القاضي (الكردي) آمر مدفعية الفرقة، والنقيب الركن نزهة القزاز (الكردي) ضابط استخبارات الفرقة، والرائد نشأت السنوي (كردي) آمر انضباط الفرقة، ومعاونه النقيب فخري كريم (الشيوعي المتطرف).

وكما سبق ونوهنا، بأن لجنة كركوك المحلية للحزب الشيوعي العراقي كانت تابعة لفرع كردستان، وهي في يد الكرد. وكان محور ادارة الأمور في المدينة يكاد يكون (معروف البرزنجي) المحامي سكرتير أنصار السلام، ورئيس البلدية، و(عوني يوسف)، رئيس محكمة الاستئناف، وهو عضو سابق مؤسس في الحزب الديموقراطي الكردي الموحد، وذو ماض ديموقراطي يميل للشيوعيين. ومعظم القضاة من الأكراد. ومدير الأمن كردي، ومعظم معاونيه من ضباط الأمن أكراد، و(مهدي حميد) رئيس المقاومة الشعبية عضو في الحزب الشيوعي العراقي.

بدأت عملية التنكيل والاضطهاد ضد التركمان، وقد تم خلال أيام اعتقال ما يقرب من ثلاثة آلاف تركماني في كركوك، شيوخاً وشباباً، رجالاً ونساءً بتهمة (الطورانية) التهمة التي أصبحت شائعة تلصق بكل تركماني قومي.

يقول مدير الشرطة (جاسم السعودي) في رسالته: “وفي حوالي الساعة السابعة، وعند وصول المسيرة إلى الجسر القديم في طريقها إلى جهة القلعة واجهت مظاهرة تركمانية، وتدخلت فاصلاً بين الطريفين. تقدمت المسيرة وأنا على رأسها (والكلام لمدير الشرطة)، ولدى دخولنا شارع الاستقلال رأيت طابوراً مؤلفاً من حوالي ٦۰ جندياً يحملون الحبال ويسيرون بالاتجاه المعاكس. وبناءً لأوامري، حولهم رجال الشرطة إلى الشارع الجانبي لمديرية التربية. وعندما وصلت مقدمة المسيرة إلى أمام مقهى ١٤ تموز، الذي يتردد التركمان عليه، سمعت أصوات طلقات نارية. ولم يكن ممكناً تحديد هوية مطلق النار، ولكن المتظاهرين هاجموا التركمان المتجمهرين أمام المقهى، وتبع ذلك شجار، استعملت فيه الحجار وعصي الرايات في البداية، ولكنه سرعان ما تطور إلى إطلاق الجنود ورجال المقاومة الشعبية النار. وقتل عشرون تركمانياً سحلت جثثهم في الشوارع. . . كان من بينهم الرئيس المتقاعد عطا خير الله، وعثمان الجايجي صاحب مقهى الرابع عشر من تموز، وابنه وابنان للمختار فؤاد عثمان. وبلغ عدد الجرحى ١٣۰ وإضافة إلى ذلك فقد نهب سبعون دكاناً ومقهى وكازينو. وكانت هذه الأعمال كلها من فعل الجنود ورجال المقاومة الشعبية. وكذلك، فقد هاجم رجال المقاومة الشعبية مركز شرطة الإمام قاسم واستولوا على أسلحة تخص المقاومة و۱٨ بندقية للشرطة. . وعلمنا وقتها أن هذا الهجوم تم بمبادرة من مفوض الشرطة المتقاعد نوري ولي وجماعته”.

وتم ايضاً تدمير بعض الأماكن (سينما العلمين، وسينما أطلس والقلعة) بمدافع الهاون والأسلحة المختلفة الأخرى.

وقد أسفر التحقيق في حوادث الأيام الثلاثة الشنيعة التي ارتكبت فيها أعمال القتل وسحل الأحياء بالحبال بعد ربطها خلف السيارات وتمزيق الجثث إلى نصفين، بإحالة المتهمين إلى المحاكم العرفية التي حكمت على (٢٨) منهم بالاعدام، إلا أن (عبد الكريم قاسم) لم ينفذ حكم الاعدام بحقهم إنما أبقاهم في السجن، وبعد الاطاحة به تم تنفيذ الحكم في ٢٢ حزيران من عام ١٩٦٣ في عهد عبدالسلام عارف وحكم البعث الأول”.

مقاطع من كتاب: التاريخ السياسي لتركمان العراق – عزيز قادر الصمانجي – ص ١٣٥ – ١٨٠ – دار الساقي – لندن ١٩٩٩