تركمان العراق: سبل الوحدة السياسية والتكامل الإقليمي
مضر الدركزنلي
إن الواقع الذي يعيشه تركمان العراق ليس مجرد صورة عابرة، بل هو معركة حية تفرض علينا ضرورة الانطلاق من رؤية فلسفية عميقة تُدرك أنّ العيش في ظل التشرذم والانقسام ليس إلا جريمة في حق الإنسان ذاته. إنّ القوى التي تمزق هذا المجتمع ليست إلا انعكاسات لأيديولوجيات ضيقة ترى في نفسها الحقيقة الوحيدة، وتنكر على غيرها حقّ المشاركة في بناء الهوية المشتركة. أما الطريق إلى النهوض، فلا يكون إلا في وحدة فكرية حقيقية، تتسع لجميع الاتجاهات، فلا مكان فيها للإقصاء ولا للهيمنة.
ما يحتاجه التركمان اليوم هو صياغة مشروع وطني قائم على المبادئ الإنسانية الكبرى: العدالة والمساواة، الذي يوحد بين الأبعاد المتناقضة: الحداثة والتقاليد، القومية والوطنية، المصلحة الخاصة والمصلحة العامة. إنّ التنوع بين أبناء هذا الشعب يجب أن يُحسن استثماره كمصدر قوة، لا بوصفه جسراً للفُرقة والتمزق. فالتناغم بين التعددية الفكرية والتوجه الواحد نحو المستقبل هو وحده الكفيل بأن يعيد للتركمان قوتهم ويضمن لهم دوراً في بناء العراق الجديد.
إنّ هذه الرؤية تتجاوز مجرد التفكير في وحدة سياسية أو اجتماعية، بل تفتح أمامنا أفقاً أوسع من التنسيق الثقافي والعقلي، فكلّما تجنبنا الأيديولوجيات الضيّقة وتجاوزنا الانقسامات التي أرهقت هذا الشعب، كلما اقتربنا من تحقيق حلم الاستقرار والازدهار. وفي هذا المسعى، ينبغي لنا أن نتمسك بهدف واحد لا يحيد، وأن نكون على يقين أن وحدتنا في الرؤية، لا في الفكر الواحد، هي التي سترسخ وجودنا في هذا الوطن الذي يتنفس التنوع.
إن تركمان العراق، وقد تفرّقت بهم السبل، واختلفت فيهم المشارب، يعانون تبايناً فكرياً وسياسياً يعيق اجتماع كلمتهم، ويحجبهم عن أن يكونوا قوةً يعتد بها في معادلة العراق السياسية. فلقد صاروا بين من يرى الحداثة في اقتفاء أثر الأتاتوركية، ومن يحنّ إلى أمجاد الطورانية، ومن يتخذ الدين سبيلاً، يوفّق بين العقيدة والهوية، ومن غلبت عليه النزعة المذهبية، فاستظلَّ بظلّ قوى لا تعبأ بشأنه إلا بقدر ما يكون أداةً في يدها، ومن يتوق إلى بعث العثمانية، ومن يرى النجاة في الانصهار في كيان العراق دون تمييز. فكان من ذلك تشتّت أمرهم، وانقطاع وحدتهم، فغدوا فرقاً شتى، لا يجتمع لهم رأي، ولا تستقيم لهم خطة، ولا يُرجى منهم نفع. وهذا الاختلاف لم يقف عند حدّ الفكر، بل تجاوزه إلى مضمار السياسة، فصار التركمان بعد أن كانوا شركاء في بناء العراق، أوراقاً تتقاذفها رياح المصالح، تتلاعب بها الأيدي الخفية، وتُدرج أسماؤهم في سجلات النفوذ، لا ليكونوا صانعي القرار، بل ليُستخدموا وقوداً في معارك لا ناقة لهم فيها ولا جمل. فبدلاً من أن يكونوا قوة فاعلة، صاروا عزلاً، تتلاعب بهم الأهواء، وتتقاذفهم التيارات.
وقد زاد الطين بلّة أن الضغوط الخارجية اشتدّت عليهم، فمن رام دمجهم في مشاريع أكبر، رأى في هويتهم حجر عثرة، فسعى لطمسها، ومن رام توظيفهم في مخططاته، جعلهم آلةً تدار بمشيئته، لا إرادة لهم ولا استقلال. فمن هذا كله، يتبيّن أن الحاجة باتت ماسّة إلى نهج جديد، يُبنى على العقل والتدبّر، لا على العواطف والشعارات، ويأخذ في حسبانه ما يعصف بالعالم من اضطراب، وما يحدق بالتركمان من أخطار. نهجٌ يجعلهم جزءاً من العراق، ولكن لا على سبيل التلاشي، بل على سبيل التكامل، فيكون لهم وجود يحترم خصوصيتهم، ويضمن حقوقهم، دون أن يكونوا تابعين أذلاء، أو أدواتٍ في يد الغير. وفي هذا المضمار، فإن صِلة التركمان بالدول التركية ليست مجرّد ميلٍ عاطفي أو رغبةٍ في الانتماء، بل هي ضرورة يقتضيها العقل، ويفرضها الواقع. فهم حلقة الوصل بين العراق وهذه الدول، وإنّ التواصل معها، في إطار يحفظ المصالح المشتركة، لا يسهم في تقوية التركمان فحسب، بل يجعل منهم جسراً حيوياً بين العراق والعالم التركي، فيكون لهم بذلك شأنٌ أعظم، ودورٌ أكبر. غير أن هذه الصلة لا تؤتي ثمارها إلا إذا قامت على أساسٍ متين، فإن لم يكن للتركمان خطابٌ سياسيٌ متماسك، قائمٌ على الواقعية، بعيدٌ عن الأوهام، فلا خير يُرجى من هذا الارتباط، بل قد يكون وبالاً عليهم. لذا، وجب أن يكون لهم خطابٌ متزن، يوازن بين الولاء للعراق، والتواصل مع العالم التركي، فلا يكونوا تابعين بلا رأي، ولا معزولين بلا سند.
وإنّ جمع شتاتهم تحت قيادةٍ موحدة، تلمّ شعثهم، وتجمع كلمتهم، وتوجه خطاهم، لهي خطوةٌ لا غنى عنها، إن أرادوا أن يكون لهم موطئ قدم في عراقٍ يموج بالأحداث. وكذلك، فإن السياسة ليست منفصلةً عن الاقتصاد، فكما أن الاستقلال في الرأي لا يكون إلا بالوعي، فإن الاستقلال في السياسة لا يكون إلا بالاقتصاد. فدون قاعدة اقتصادية صلبة، يكون التركمان رهينة الحاجة، تُفرض عليهم القرارات فرضاً، ويُسلب منهم القرار، فلا يملكون إلا أن يكونوا أتباعاً لغيرهم. لذا، فإن دعم المشاريع الاقتصادية، وإنشاء صندوقٍ تنمويّ خاص، يعدّ من الضرورات التي لا يجوز التفريط بها، فمن ملك المال، ملك قراره، ومن افتقر، أُجبر على بيع رأيه لمن يشتري.
وإنّ من أعظم ما يواجه التركمان، أنهم في بقعةٍ يتنازعها الأقوياء، وكلٌّ يريد لهم مساراً يخدم مصالحه، ومن هنا، فإنّ التنسيق مع الجمهورية التركية، التي كانت ولا تزال سندهم في الأوقات العصيبة، يعدّ من مقتضيات البقاء. فهي وحدها من قدّمت لهم العون، ومدّت لهم يد المساعدة، لا لمصلحة آنية، بل لوشائج القربى، وصلة الدم، وامتداد التاريخ. ولكن، إذا كان الاستقلال السياسي هو الغاية، فإن الوحدة الداخلية هي السبيل. فلن يعلو للتركمان شأن، وهم في فرقةٍ واختلاف، ولن تكون لهم قوة، وهم يتنازعون فيما بينهم، يقدّمون انتماءاتهم الأيديولوجية على مصلحتهم القومية. فلابدّ من تناسي الضغائن، ونبذ التفرقة، والاجتماع تحت رايةٍ واحدة، تحفظ حقوقهم، وتصون هويتهم، وتُبقي لهم مكاناً في عراق المستقبل. وإنّ التعليم، بما له من أثر في صقل العقول، لا بدّ أن يكون جزءاً من هذا المشروع، حتى تنشأ أجيالٌ تعرف قيمتها، وتدرك مكانتها، وتعمل لبناء مجدها، فلا تظلّ ألعوبةً بيد غيرها. فإذا تحقق ذلك، وقام للتركمان كيانٌ موحّد، وسياسةٌ راسخة، واقتصادٌ متين، فإنهم سيكونون قادرين على مواجهة التحديات، وحجز مكانهم في العراق الجديد، لا كأتباعٍ أو بيادق، بل كقوةٍ مؤثرة، وشريكٍ لا غنى عنه في بناء الوطن.