
الآثار الاستراتيجية لتبني سياسة مستقلة عن تركيا وتحديات ومخاطر تواجه التركمان في العراق
مضر الدركزنلي
اذا تبنَّى تركمان العراق خياراً سياسياً مستقلاً عن تركيا، فإنهم سيكونون وجهً لوجه أمام تحديات مصيرية قد تعصف بمكانتهم وتهدد استقرارهم الداخلي. فالعراق ليس جزيرة معزولة عن محيطه، بل هو ساحة تتشابك فيها المصالح الإقليمية والدولية التي تسعى لفرض هيمنتها، وعلى رأسها الولايات المتحدة وإيران، اللتان تمتلكان مفاتيح القرار السياسي في المنطقة وبدرجة اقل تركيا ودول الخليج العربي. و في ظل هذا الواقع، لا يُنظر إلى الاستقلالية السياسية على أنها مجرد موقف، بل تُفسَّر باعتبارها تحدياً مباشراً لمعادلات القوة السائدة، مما قد يعرّض التركمان لضغوط سياسية واقتصادية وأمنية لا قِبَلَ لهم بها.
إن التحدي الأول الذي سيواجه التركمان هو التدخل الخارجي للقوى الاقليمية الذي سيتضاعف مع كل خطوة نحو الاستقلالية، هذه القوى لن تقف مكتوفة الأيدي أمام أي تحرك يُضعف امتدادها هناك لانها ترى في العراق ساحة نفوذ استراتيجي، فيما تراقب الولايات المتحدة المشهد بعين الحذر، متأهبةً للتدخل بما يضمن مصالحها. وفي هذه الدوامة الخطيرة، تتحرك قوى محلية مدفوعة بأجندات خارجية، لتُعيد رسم مشهد التوازنات وفق مصالحها، مستخدمةً أدوات الضغط السياسي والعسكري. في واقع العراق الحالي، التركمان هم القومية الوحيدة التي لا تمتلك قوةً مسلحة، ضمن دولة تهيمن فيها القوى المتصارعة عبر أذرع عسكرية واقتصادية. وهكذا يصبح التركمان عُرضة لمساومات قاسية، قد تفرض عليهم تنازلات في ملفات جوهرية تتعلق بحقوقهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
أما على المستوى الأمني، فإن خروجهم من المظلة التركية سيجعلهم أكثر عرضةً للتحديات التي تعصف بالعراق، حيث لا تزال القوى المتصارعة تُعيد رسم الخرائط بحدّ السيف والنار. فالتاريخ القريب يشهد بأن أبناء التركمان كانوا هدفاً لقوى إرهابية وأخرى متنفذة، بعضها خارج القانون، وبعضها الآخر يرتدي عباءة الشرعية. ومما يزيد من خطورة الموقف أن القوى التي تناصبهم العداء ليست مجرد جماعات منفلتة، بل منظومات تمتلك نفوذاً وقدرات تتغذى على الفوضى السياسية، وهي قادرة على ملء أي فراغ ينشأ عن غياب المظلة الحامية.
على الصعيد الدبلوماسي، فإن العزلة ستكون ثمناً لا مفر منه. إذ إن العلاقات الوثيقة مع تركيا لم تكن مجرد تحالف سياسي، بل كانت قناة تتيح للتركمان تحقيق بعض المكاسب الداخلية مستفيدين من ثقل أنقرة في المعادلات الدولية، وبالتالي على القرار السياسي العراقي فيما يخص التركمان في العدد من القضايت. وإذا فُقد هذا الامتداد، فإنهم سيجدون أنفسهم أمام طريق مسدود، تتحكم فيه حسابات القوى الفاعلة، التي لا ترى فيهم أكثر من ورقة قابلة للتفاوض، أو طرف يمكن تهميشه لصالح الاطراف الاقوى.
أما الاقتصاد، فهو الميدان الذي ستبدو فيه التداعيات أكثر وضوحاً. فتركيا ليست مجرد جار، بل شريك اقتصادي حيوي للعراق، تمتد استثماراته إلى مشاريع البنية التحتية والتجارة والتمويل. ومع تراجع هذه العلاقات، ستضيق فرص العمل أمام التركمان الذين لطالما استفادوا من هذه الروابط، مستثمرين ميزة إجادتهم للغة التركية في الحصول على فرص لا تتاح لغيرهم. وفي بلد يعاني من تفشي البطالة، فإن فقدان هذه الامتيازات سيؤدي إلى أزمات اجتماعية تُضاف إلى معاناة شعب تحاصره التحديات من كل اتجاه.
وفي المشهد الديمغرافي، فإن غياب الدعم التركي سيترك فراغاً تستغله القوى المتنافسة، خصوصاً الأحزاب الكردية والعربية التي تتطلع لتعزيز وجودها في المناطق ذات الغالبية التركمانية. ومع غياب الدولة القادرة على فرض العدالة، فإن عملية التغيير الديمغرافي قد تتسارع، لتُحدث اختلالاً ينعكس على البنية المجتمعية والسياسية، ويفرض واقعاً جديداً تُمحى فيه معالم التأثير التركماني.
لكن الأخطر من كل ذلك، هو ما قد ينشأ من تصدّع داخلي في صفوف التركمان أنفسهم. فحين تتعدد الخيارات وتتصادم الرؤى، تتعمق الانقسامات، وتصبح وحدة الصف عرضة للتآكل. بين من يرى ضرورة الحفاظ على الارتباط بتركيا، ومن يدعو إلى البحث عن خيارات أخرى، قد تتحول هذه الخلافات إلى معضلة تُضعف القرار التركماني، وتفتح المجال أمام القوى الخارجية للعب دور أكثر تأثيراً في تشكيل مصيرهم.
إن التحرك نحو الاستقلال السياسي في هذه البيئة المضطربة ليس مجرد قرار، بل هو رهان محفوف بالمخاطر. فالمسألة لا تتعلق فقط بمبدأ الاستقلالية، بل تتصل بالقدرة على مواجهة التحديات التي قد تنجم عنها. وفي غياب البدائل الواقعية، قد يكون الثمن أكبر مما يُتصور، وقد يجد التركمان أنفسهم في معادلة لا خيار لهم فيها إلا الرضوخ لقوى لا تكترث بمصالحهم، بل تستخدمهم كأدوات لتحقيق أهدافها في ساحة تعج بالصراعات والمساومات. 2 آذار 2025