على تخوم قرن بلا يقين: خرائط القوة في عالم ما بعد 2025
مضر الدركزنلي
في أعقاب العام 2025، لم يعد العالم كما عهدناه. لم تكن المسألة مجرد تغير في موازين القوى، أو انتقال الثقل من غرب إلى شرق، بل بدا الأمر وكأن البشرية تشهد انبعاثاً جديداً، نظاماً عالمياً يتشكل من رحم الفوضى، ويولد على تخوم الانهيار المنظومي الذي طال البنية العتيقة التي حكمت القرنين الماضيين! هذا ليس مجرد تغير في خارطة التحالفات أو في طبيعة المؤسسات، بل هو تحوّل جذري في منطق القوة، وفي مفهوم التفوق ذاته، وفي طبيعة الإنسان المعاصر داخل هذا النسق الجديد. لقد كانت القوة، لعقود طويلة، تقاس بمقاييس الحديد والنار، أو بمساحات النفوذ المباشر في خرائط الجغرافيا. أما اليوم، فإن القوة أصبحت تُصاغ في مختبرات الذكاء الاصطناعي، وتُروَّج في غرف التحكم بالبيانات، وتُدار في مراكز الحوسبة الكمية، حيث لا يُسمع دوي المدافع، ولكن يُصنع مصير الدول بصمت كصمت القبور. إن موازين التفوق لم تعد تُقاس بعدد الدبابات أو الصواريخ البالستية، بل بكمية البيانات التي تملكها دولة عن شعبها وشعوب غيرها، وبعدد الأقمار الصناعية التي تحلق فوق رؤوسنا دون أن نشعر بها، وبقوة شبكات المعرفة لا شبكات النفط.
في هذا النظام، لم تعد الدولة الوطنية بمفهومها التقليدي القائم على السيادة المطلقة قادرة على الصمود في وجه الشركات العابرة للحدود، والهيئات فوق-الوطنية، والفاعلين غير الدوليين الذين أصبحوا جزءاً لا يتجزأ من معادلة الحكم العالمي. لقد خرج القرار السياسي من قصور الرئاسة ليتوزع بين مراكز البحث، ووادي السيليكون، ومؤسسات التصنيف الائتماني. ومثلما قال غرامشي يوماً في وصف لحظة التحول: “العالم القديم يحتضر، والعالم الجديد لم يولد بعد!! وفي هذا الفراغ تظهر الوحوش”، فإننا نشهد اليوم لحظة تاريخية تُنحت فيها ملامح العالم القادم لا بالسلاح، بل بالمعرفة المسلّحة.
إن أبرز ما يميز هذا النظام الجديد هو نهاية عصر الحقيقة الواحدة، وبروز نماذج متعددة للحداثة، ولكل منها منطقه ومشروعه وقيمه. فبينما تصر القوى الغربية على الدفاع عن نموذجها الليبرالي، تُطرح في الشرق رؤى مغايرة، تمزج بين التقنية والسلطوية، بين التخطيط المركزي وحرية السوق، بين الانغلاق الثقافي والانفتاح التكنولوجي. لم تعد الديمقراطية الغربية النموذج الأعلى الذي تسعى له الأمم، بل باتت نموذجاً من بين نماذج متعددة، يفقد بريقه أمام منطق الكفاءة والنتائج.
المفارقة الكبرى في هذا النظام، أن من يملك التفوق لم يعد بالضرورة من يملك الحق، ومن يملك القوة لم يعد مضطراً لتبرير شرعيته بالأخلاق أو القيم! نحن أمام عالم واقعي حتى النخاع، لا يعترف إلا بالنتائج، ولا يحترم إلا من يستطيع أن يفرض إرادته ضمن معادلة المصالح المتغيرة. لم تعد الشعارات وحدها تكفي، ولم تعد العدالة غاية في ذاتها، بل أصبحت تُقاس بمدى نفعها للنظام لا للبشر. في هذا السياق، تصعد دول وتغيب أخرى، وتتشكل تحالفات ليست قائمة على التاريخ أو الإيديولوجيا، بل على البراغماتية المطلقة. فالصداقة في هذا العالم ليست إلا لحظة التقاء مصالح، والعداوة ليست إلا محطة مؤقتة في مسار التحولات. لم تعد العلاقات الدولية لعبة شطرنج كلاسيكية، بل باتت أقرب إلى مباراة في الشطرنج الكمي، حيث كل الاحتمالات قائمة في آن واحد، والحركة لا تقررها النية بل المعطيات اللحظية.
هكذا إذاً، يدخل العالم طوراً جديداً من أطوار التاريخ، لا يمكن تفسيره فقط بلغة القانون الدولي أو الفلسفة السياسية التقليدية، بل يحتاج إلى أدوات جديدة في التحليل، وفهم أعمق لمعنى الإنسان وهو يذوب شيئاً فشيئاً داخل منظومات الذكاء الاصطناعي، وتطبيقات الرقابة الشاملة، ودوائر الاقتصاد غير الملموس.
ولعل التحدي الأكبر الذي يواجه الأمم الصغيرة أو الحضارات الجريحة، هو ألا تُستهلك بالكامل في هذا النظام الجديد، بل أن تجد لها موقعاً فاعلاً فيه، لا كمفعول به، بل كعنصر صانع للمستقبل. ولا يتحقق ذلك إلا إذا وعت هذه الأمم قوانين اللحظة، وأدركت أن البقاء لم يعد للأقوى فقط، بل للأكثر وعياً، والأسرع تكيفاً، والأقدر على المزج بين جذوره الحضارية وأدوات العصر. هكذا يتبدى العالم بعد 2025: مشهد كثيف، مضطرب، ومفتوح على احتمالات لا نهائية. لكن الثابت الوحيد فيه، هو أن الإنسان لم يعد في مركز المعادلة، بل بات رقماً في شبكة كونية واسعة، لا ترحم المتخلفين عن ركبها، ولا تنتظر المترددين في حسم خياراتهم، فاسحم امرك قبل فوات الأوان!