شائعات ومفاهيم خاطئة عن معاهدة لوزانواهمها قضية الموصل وكركوك
تحقيق وتحليل: علي البياتلي
منذ بداية عام 2020 وحتى عام 2023 انتشرت تحليلات وأقاويل متنوعة في بعض الصحف العربية والبرامج التلفزيونية وخاصة الشائعات التي انتشرت بشكل كبير على منصات التواصل الاجتماعي والتي تضمنت الكثير من المعلومات الخاطئة والمغلوطة عن عمد أو عن غير قصد حول اتفاقية لوزان الشهيرة. تم إبرام هذه الاتفاقية بين قوات التحالف المكونة من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا واليابان ورومانيا وصربيا وكرواتيا وسلوفينيا وبين الجمعية الوطنية التركية (المجلس الوطني الكبير) والتي كانت تمثل الجمهورية التركية في ذلك الوقت. تم توقيع الاتفاقية في 24 يوليو 1923 في مدينة لوزان السويسرية، بعد الحرب العالمية الأولى لإنهاء اتفاقية سيفر السيئة السمعة التي وقعتها الدولة العثمانية في 10 أغسطس 1920 تحت ضغوط قوات التحالف. لذلك، تعتبر اتفاقية لوزان إلغاءً تامًا لاتفاقية سيفر وهدنة (معاهدة أوشي). هذه هي أول الحقائق التي لا يعلمها الكثيرون من المحللين وأدباء الحديث.
في بحثنا هذا، أردنا توضيح بعض الحقائق التي استوجبت توضيحها للقراء والمؤرخين بسبب كثرة المعلومات غير الصحيحة والمليئة بالأساطير المغلوطة، التي تم نشرها عمداً أو سهواً. لذا، نترك لكم هذه الاستنتاجات التي تبعدنا عن صلب الموضوع والمفيد لبحثنا ونبدأ بتوضيح الحقائق حسب تسلسل الشائعات وشهرتها وتداولها.
أولاً: الشائعة بأن تركيا وقعت الاتفاقية بسبب انكسارها وضعفها
هذه من أشهر الشائعات وأكثرها خطأً ومغالطةً. القيادة التركية لم توقع هذه الاتفاقية بسبب انكسارها وضعفها، بل كانت في أوج انتصاراتها التي قادها مؤسس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك وخصوصاً في المعارك التي خاضها ضد اليونان حيث تمكن من طرد القوات اليونانية من الأراضي التركية وتحريرها بالكامل مما أدى إلى استقلال تركيا. يمكننا القول بأن دول التحالف هي التي كانت تسعى للجلوس والتفاوض مع تركيا بسبب هزائمها وخسائرها العسكرية وكانت ترغب في وضع حد لهذه الخسائر وكذلك لمنع تمدد القوات التركية خارج ما كان مرسومًا في حساباتها. والجدير بالذكر أن تركيا كانت ترغب بشدة في اتفاقية جديدة تلغي اتفاقية سيفر المشؤومة وتعيد رسم الحدود بشكل منصف، وتمكنها من الاستفادة من ثرواتها وسواحلها ومضايقها وحتى الجزر البحرية.
إذا راجعنا الكتب التاريخية وبنود الاتفاقية بدقة، سنرى أن الاتفاقية تحتوي على مكاسب وطنية مهمة للجمهورية التركية، وكانت الأساس في رسم حدودها حتى يومنا هذا. وهذا ينفي تلك الادعاءات التي تزعم أن تركيا كانت في حالة ضعف، فمنطقياً كيف تكون هناك مكاسب للدولة المنكسرة.
ثانياً: الشائعة بأن اتفاقية لوزان ستنتهي بعد 100 عام
وهذه أيضاً من الشائعات الشهيرة التي انتشرت بين السياسيين والمحللين السذج في الآونة الأخيرة. تعتبر هذه من الأخطاء الكبيرة، لأننا لو دققنا في معاهدة لوزان وراجعنا بنودها والبالغ عددها 143 بنداً، لن نجد أي نص يؤكد تلك الشائعة. لا يوجد في أي ملحق للاتفاقية ما يذكر ذلك وحتى في المقابلات والمحادثات والمداولات التي جرت بين الأتراك وقوات التحالف لم يرد ذكر لذلك.
شخصياً، قابلت إحدى الشخصيات الدبلوماسية من وزارة الخارجية التركية وطرحت عليه سؤالاً مختصراً عما إذا كان هناك عمر افتراضي لهذه الاتفاقية. أجابني بثقة أن اتفاقية لوزان ليس لها مدة زمنية تحدد صلاحيتها أو نفاذها وهي مستمرة. وأضاف أن الاتفاقيات الدولية تبرم بدقة عالية ولها معايير دولية خاصة ومحددة قانونياً ولا تنتهي هذه الاتفاقيات إلا بشرطين: إما وجود مدة زمنية معينة متفق عليها ضمن بنود الاتفاقية، أو أن تجتمع أطراف الاتفاقية مرة أخرى وتتفق على اتفاقية جديدة تحل محل الاتفاقية القديمة. في حالة اتفاقية لوزان، لا يوجد مكان لهذين الشرطين فلا يوجد بند أو ملحق يحدد المدة الزمنية ولا توجد نية للأطراف الحالية للاجتماع وعمل اتفاقية جديدة، لذلك ستبقى معاهدة لوزان سارية المفعول حتى أجل غير معلوم.
ثالثاً: الشائعة بأن تركيا ممنوعة من التنقيب عن النفط
وهذه شائعة أخرى ضمن قائمة الإشاعات الطويلة التي تداولها المحللون الاقتصاديون الجدد والمهتمون بالموارد الطبيعية وخاصة على موائد مقاهي الشاي. بالعكس تماماً فإن جمهورية تركيا لها كل الحق والصلاحيات في التنقيب عن مواردها الطبيعية ضمن حدودها وأقاليمها البحرية وخصوصاً الثروات الأحفورية من الفحم إلى الغاز الطبيعي والبور وحتى الذهب. لديها الحق في التمتع بهذه الثروات والموارد. وهناك بيانات رسمية ومقالات تشير إلى قيام تركيا بأعمال التنقيب حيث تم اكتشاف النفط في منطقة غابار شرق تركيا ومن المتوقع أن ينتج حوالي 100 ألف برميل يومياً في العام المقبل. كما تم اكتشاف الغاز الطبيعي في مياهها الإقليمية وبدأت بالفعل في استخراج الغاز لأغراض الاستهلاك المحلي والتصدير. ولا ننسى أن تركيا تستخرج الفحم والمعادن بشكل طبيعي للاستهلاك المحلي وتصدر ما يزيد عن حاجتها. تركيا تمتلك شركات عالمية ذات مهارات وكفاءة عالية في مجال التنقيب واستخراج النفط والغاز ولديها معامل تكرير في العديد من دول العالم والخليج العربي.
رابعاً: الشائعة بأن جميع السفن تمر من مضيق البوسفور التركي في إسطنبول مجاناً
وهذه من أغرب الشائعات وأبسطها طعناً. إذا قمنا بالبحث على الإنترنت، سنجد في العديد من الصحف التركية الرسمية تقارير تشير إلى الإيرادات المالية السنوية لمضيق البوسفور. على سبيل المثال، هناك تقرير اقتصادي في صحيفة “الصباح” التركية يذكر أن مضيق البوسفور حقق أرباحاً تقدر بحوالي 40 مليون دولار أمريكي خلال العام الماضي، وهذا ينفي تلك الشائعة تماماً.
أود أن أذكر موضوعاً مهماً يتعلق بهذه الشائعة وهو ما ورد في بنود الاتفاقية. خلال مراجعتي للاتفاقية، وجدت أن المادة 21 تنص على أن جمهورية تركيا تمتلك حق إغلاق المضيق أمام السفن الأجنبية في حالات خاصة ومحددة مثل حالات الحروب أو الكوارث الطبيعية التي تعيق حركة السفن وتعرضها للخطر.
خامساً: الشائعة بوجود بند في الاتفاقية يفرض العلمانية على تركيا
تداولت هذه الشائعة بين بعض المقالات والدراسات التاريخية والسياسية، وتفيد بأن الاتفاقية فرضت العلمانية على تركيا الجديدة. هذا الأمر غير صحيح ويحرف البند الخاص بهذا الموضوع. سأنقل لكم نص البند الصحيح كما يلي:
“الأقليات التركية غير المسلمة ستتمتع بذات الحقوق والضمانات الممنوحة للمواطنين الأتراك المسلمين. يُسمح لهم بتأسيس وإدارة المؤسسات التعليمية والاجتماعية والدينية والخيرية بكافة أنواعها كما يُسمح للأقليات باستخدام لغتهم وممارسة شعائرهم الدينية بحرية. يتم تبادل الأتراك المقيمين في غرب تركيا الواقعة داخل الحدود اليونانية بالروم المقيمين في إسطنبول.”
هنا نرى بوضوح البند الحقيقي في الاتفاقية ومفهومه، ولا يتطابق مع ما أشيع عنه، مما ينفي محاولات تحريفه. يجب أن نذكر أن تركيا بالمقابل طالبت بحقوق المسلمين المقيمين في اليونان وغيرها بتمتعهم بحريتهم الدينية الكاملة وحمايتهم. وقد تم تثبيت هذا المطلب كبند كامل داخل إطار اتفاقية لوزان مما يظهر تمسك تركيا بمواطنيها خارج حدودها الجديدة، وينفي هذه الشائعة بشكل صريح.
سادساً: الشائعة بوجود بند في الاتفاقية ينص على مصادرة جميع أموال الدولة العثمانية
لا وجود لهذا البند أو ما يشبهه تماماً في اتفاقية لوزان ولم يتطرق الأطراف أثناء المباحثات والمداولات لهذا الموضوع. سأنقل لكم نص البند الصحيح كما يلي:
“تقسيط الديون الكبيرة التي كانت على الدولة العثمانية. بالمقابل تتنازل تركيا عن كافة حقوق الدولة العثمانية السياسية والمالية المتعلقة بمصر والسودان.”
هنا نرى أنه لا يوجد أي ذكر أو حديث عن مصادرة أموال أو حقوق. بالعكس نرى تصرفاً ذكياً ودبلوماسياً من الجانب التركي، حيث يتم تحويل الديون الكبيرة إلى أقساط مالية لتسهيل تسديدها وتقليل العبء على الحكومة والشعب. بالمقابل تتنازل تركيا عن حقوق سياسية ومالية في مصر والسودان، مما يلفت النظر إلى أن دول التحالف تعطي أهمية كبيرة للحقوق السياسية لتركيا في مصر والسودان. وهذا يؤكد قناعة دول التحالف بقوة النفوذ السياسي التركي في تلك الدولتين ومحاولتها لإنهائه.
سابعاً: الشائعة بوجود بنود سرية في اتفاقية لوزان
بحسب النص الكامل لاتفاقية لوزان فإن الاتفاقية تضمنت 143 مادة موزعة على 17 وثيقة بين “اتفاقية” و”ميثاق” و”تصريح” و”ملحق”. تناولت هذه المواد ترتيبات الصلح بين الأطراف الموقعة على المعاهدة وإعادة تحديد المبادئ العامة للقانون الدولي وتأسيس العلاقات الدبلوماسية بينها وفقاً للقوانين الدولية المعترف بها ضمن أجواء السلام وحسن الجوار.
بحثنا في أكثر من مصدر تاريخي سواء كمؤلف شخصي أو كأرشيف رسمي داخل المؤسسات الرسمية، وحتى في المقالات التي نشرت قديماً وحديثاً حول هذه الاتفاقية لم نجد أو نرَ أي مصدر يشير إلى وجود بنود أو مواد سرية في هذه الاتفاقية. كانت جميع البنود واضحة ومنشورة وتم متابعتها من قبل الصحف والإعلام آنذاك، وتم نشر جميع محتويات الاتفاقية علناً وهذا يمكننا من الطعن قانونياً في هذه الشائعة التي لا تعكس الحقيقة.
أود أن أضيف أن مبادئ “ويلسون” الـ14 التي أسست عصبة الأمم في يناير 1918 تنص على أنه لا يمكن أن تكون هناك بنود سرية في المعاهدات الدولية وأنه لا يمكن تنفيذها سراً بأي شكل من الأشكال. ذكر مركز الأبحاث التركي “دوغرولوك” أنه لا يوجد أي بند سري في المعاهدة ولا دليل على ذلك حتى في مصادر أخرى من تلك الفترة. إذا كانت هناك بنود سرية في المعاهدة فمن المنطقي أن تكون قد وقعت عليها تركيا والدول الأخرى المشاركة وكان ينبغي قبول تلك البنود في جلسة سرية بالبرلمان، إلا أنه لا يوجد دليل أو وثيقة أو مذكرة على عقد مثل هذه الجلسة السرية.
أضيف أنه في 13 أبريل 2022 أوضح مركز اتصالات رئاسة الجمهورية التركية (CİMER) أنه أصدر رداً رسمياً على طلب مواطن تركي بالكشف عما إذا كانت هناك بنود سرية تمنع البلاد من التنقيب. أجاب بأنه لا توجد بنود سرية في معاهدة “لوزان” وأنه لا توجد مادة تمنع التنقيب أو التعدين.
ثامناً: الشائعة بخصوص قضية الموصل وكركوك
تداولت كثيراً في الأوساط الاجتماعية والعلمية وحتى السياسية قضية الموصل وكركوك لذا أردنا التوصل إلى الحقائق الخاصة بهذا الموضوع وعلاقته باتفاقية لوزان. وصلنا إلى نتيجة مهمة وغريبة بهذا الخصوص وسأختصرها لكم بهذه الجملة: “قضية الموصل لم تُحسم ولم يتم الاتفاق عليها في اتفاقية لوزان”. وهذا ما يدعو للاستغراب والتساؤل لأنه يعكس كل الأفكار المبنية على هذا الموضوع منذ سنوات طويلة في أذهان الناس. سأذكر لكم ما جاء بخصوص العراق ضمن اتفاقية لوزان:
” ترسم الحدود بين تركيا والعراق وفق ترتيبات ودية يتم إبرامها بين تركيا وبريطانيا في غضون تسعة أشهر. وفي حالة عدم التوصل إلى اتفاق بين الحكومتين خلال الوقت المذكور، يُحال النزاع إلى مجلس عصبة الأمم. تتعهد الحكومتان التركية والبريطانية بشكل متبادل بأنه ريثما يتم التوصل إلى قرار بشأن موضوع الحدود، لن تحدث أي تحركات عسكرية أو تحركات أخرى قد تُعدل بأي شكل من الأشكال الحالة الحالية للأراضي التي سيعتمد مصيرها النهائي على هذا القرار.”
بالفعل لم يتم الاتفاق على رسم الحدود مع العراق ولم يتم تحديد مصير الموصل في اتفاقية لوزان بسبب المواجهات الكبيرة والتشنج الذي حدث بين الجانب التركي والبريطاني أثناء المداولات وإصرار بريطانيا على ضم الموصل للعراق. أُحيلت القضية إلى عصبة الأمم آنذاك وتم تحديد الحدود الحالية بالضغوط البريطانية ونفوذها في عصبة الأمم رغم أن الجانب التركي قدم كل الأدلة على رغبة أهالي المدينة في الانضمام لتركيا. لكن المطامع البريطانية في نفط الموصل وقفت أمام هذه الطلبات، واستطاعت بريطانيا بعد ذلك السيطرة على نفط وحقول الموصل، وقامت الشركات البريطانية باستخراجه وتصديره خارج العراق. هنا ننهي الموضوع ونحدد الحقيقة بأن حدود الموصل تم تحديدها في عصبة الأمم وليس في معاهدة لوزان كما هو متداول بشكل خاطئ.
الخاتمة..
اتفاقية لوزان مرت بعدة مراحل في بداياتها، وكانت مليئة بالتشنجات والمواجهات المهمة. رغم عدم عدالة القوى بين الأطراف حيث كانت تركيا تمثل طرفاً والطرف الآخر يضم 8 دول منها 4 دول كبيرة وعظمى، إلا أن تركيا استطاعت أن تنجز وتتفق على الكثير من المواضيع التي تضمن لها سيادتها وحدودها وأعادت تركيا إلى الساحة السياسية العالمية كدولة قوية لا يستهان بقوتها وإرادتها.
اتفاقية لوزان كانت محل دراسة وتحليل من قبل الباحثين والسياسيين منذ قرن وخصوصاً أنها رسمت الحدود الإدارية لكثير من دول المنطقة وكانت نقطة تحول مهمة للسياسة العالمية ومنهجها وتصوراتها وقواها آنذاك، وغيرت الموازين الجيوسياسية. لكنها تبقى محل خلافات لوجهات النظر الفلسفية والتصورية للكثير من المحللين داخل تركيا وخارجها فهناك من يسميها “نصراً” وهناك من يسميها “خسارة”. وستبقى تتعرض للكثير من الإشاعات والمغالطات.