
(بين الأفكار والألوان، يولد ألف شاعرٍ وفنّان)
.م.م. بختيار حميد الطالباني.
بدءا…
يدهشني هذا الباحث في إعداده وترجمتهِ…
فهو معدّ لمادةٍ بإسلوب راق، مترجم لها بوضوح وسلاسة واعتناء. وهو أكاديمي درس الأدب التركماني والتركي، وألمّ باللغة التركمانية من جوانب شتى ثم ترجم فأبدع، بسهم هادف لا بنبل دالف.
نعم (م.د. ڕاويار جباري)، استطاع أن يرسم بصمةً معرفية في مكتبة الأدب التركماني برفاهة إحساس، وقراءة معمّقة، وانتقاء سليم، واختيار لـــــ(اثنين وثلاثين) باقةً شعرية من ديوان عريض وكبير خاص بأدب التركمان العريق، ولشعراء بعضهم قصى ومضى، وبعض ما يزال على محكّ العطاء والنماء يرقد الساحة، وفناء المساحة الواسعة بالمزيد من إيقاع القوافي التي أخذت طريقها إلى الإنشاد والتغني في قيثارة الفنانين، أو مسامرات عشاق المجالس، وطلبة الجامعات والمدارس، وأخذت مجموعات شعرية طريقها إلى العالمية عن طريق الترجمة إلى التركية والإنجليزية والإيطالية وغيرها من اللغات، وفي كتاب (الشعر التركماني في المهجر) للأديب الألمعي (د. فاروق فائق كوبرلو) تعضيد لمذهبنا في منزلة الشعر التركماني، هذا الشعر الذي يقول عنه المترجم (م.د. ڕاويار جباري): “مضامين وأساليب جديدة أبدع فيها الشعراء، حيث توجهت الأشعار نحو مضامين تتعلق بمناصرة المناضلين والمظلومين والمحرومين والكادحين والبائسين والعاشقين. أما من ناحية الشكل فبعض الشعراء باستعمالهم لقوالب وأشكال شعرية جديدة، نجحوا في إدخال نماذج تظهر للمرة الأولى في الشعر التركماني الحديث” حتى زخر هذا الشعر بدواوين الفضائل، ونتاجات الزهد، وأوتار الحكمة، وإيقاع سوريالي إلى جانب الكلاسيكي والرومانتيكي، وغير ذلك لخدمة الإنسان بشرف دلالة المعاني وحسن الألفاظ في الشكل، لا بقصد الغُنم والنوال، وإنما خدمة الصنعة الفنية في رسم يجانس بين الدال والدوال في صياغة المقال في تحقيق المآل في دولة الشعر، ومملكة الحرف ببراعة الشاعر وبلاغة القائل. وبعدُ:
فلا يقف الأدب التركماني عند حدود الإنشاد، أو الثغني بالنتاج الشعري فحسب، بل أخذ هذا الشعر بخاصة يلج بقوة إقاعهِ وفلسفته ويقتحم الدراسات الأكاديمية: الماجستير والدكتوراه بعدما نال وافرا من الاهتمام في ترجمته إلى لغات شتى، مثل اللغة العربية، واللاتينية، والإنجليزية، والإيطالية، ومما أشار إليه، وأشاد به في هذا باحثنا -المترجم- (م.د. ڕاويار جباري) في سيرة الشاعرة: (نسرين أربيل) التي أصبحت (دواوينها الشعرية المطبوعة أصبحت مادة لرسالة ماجستير لطالبين في جامعة أنقرة وأردخان التركيتين) وكذلك (صلاح نورس) الذي هو الآخر أصبحت (دواوينه الشعرية المطبوعة… مادة لرسالة ماجستير لأحد طلبة جامعة جقور أوا التركية)، والقاص والروائي المبدع، والشاعر (حمزة حمامجى أوغلو): الذي أخذت أعماله الأدبية سبيلها لتكون مادة (لرسائل وأطروحات في كل من جامعتي غازي وصقاريا التركيتين)، وكذلك الأستاذ الجامعي (أ.د. محمد عمر قازانجى) الذي تحولت أعمالهُ الأدبية إلى (أطروحة دكتوراه في جامعة أرجيس التركية)، وكذلك (رضا جولاق أوغلو ونجم الدين بيرقدار وكمال بياتلى ود. مصطفى ضيائى)، أما ماحظي به هذا الشعر في مجال الترجمة، فقد ترجم إلى العربية والكوردية والإنجليزية والإيطالية والتركية…
المترجم، أماط اللثام عن أختياراته الشعرية بقوله: “إنّ هدفنا الأول والأخير من ترجمتنا للأشعار المختارة، هو تقديم نماذج مختلفة عن مراحل تغيرّ الشعر التركماني من ناحيتي المضمون والشكل. علما أنّه تمّ ترتيب أبيات الأشعار في الكتاب من ناحية القوالب الشكلية، بالرجوع إلى النصّ الأصلي المكتوب باللغة الأم لكل شعر من الأشعار الواردة في الكتاب.” وقد حالف المترجم التوفيق في إعداد المجموعة وترجمة أشعارها، ثم بسيرة موجزة، وحبذ لو قدم المترجم في حاشية في كل شاعر مصادر ثقافته، ومذهبه الشعري، غير أن المترجم ذكر في تقديم مجموعته -هذه- ما عليه الشعر التركماني من تقسيم من ذلك:
أولا: شعراء النظم التقليدي- التقليدون، وهم صنفان:
أ- شعراء التفعيلية:
إلتزموا بأشكال القوالب والمضامين، حتى المصطلحات الشائعة في نهج شعر الديوان مثل الغزل، المناجاة، الدوبيت، الذم، المديح… وظلّ هذا النوع الشعر متماسكا ونشطا… مقتصرا على المضمون ومعنى الأشعار مثل الحزن، الآلام، الحب، الموت، الشوق…
ب- الشعر الشعبي:
وتنوع مصطلح هذا الشعر فمن مصطلح (القوريات – الخوريات) عند تركمان العراق، أو الرباعيات التركمانية المشهورة إلى مصطلح المعاني -الرباعيات الصوتية- في تركيا، إلى البيات في الجمهورية الآذرية، علما نظم الخوريات -القوريات- قد يأتي مقفى، أو غير مقفى… وهذا القسم من الشعر التركماني ترك أثرهُ الواضح على الشعراء التركمان السابقين واللاحقين، وما يزال تأثيره ماضٍ في الأجيال موروثا لا يمكن الاستغناء عنه، ويعدّ صفة أدبية تميّز هذا الشعر وهذا الشعب العريق.
وإلى جانب النمطين الشعريين، ذكر المترجم (م.د. ڕاويار جباري) النمط الشعري الآخر، وهو يتعلق بالمجددين في الفن الشعري الذي إبتدع بعد التغيرات العالمية التي حدثت في الأدب العالمين، وولادة أشكال ومضامين جديدة في ثورة واضحة، أو انقلاب على الشعر الكلاسيكي القديم، وقد ظهر لهذا النوع المجوّد مؤيدون ومعارضون… وقد ذكر المترجم (م.د. ڕاويار جباري) في هذا التمهيد ممّا حدث من تغيير في العراق بعد استبدال النظام الملكي بالنظام الجمهوري في 14 تموز 1958، يقول م.د. ڕاويار جباري: “بدأ الشعراء التركمان بتتبع جريان الأفكار في ضمن إطار التيارات والجمعيات والاتحادات المختلفة المجددة للشعر من النواحي اللغوية ومضامين القصيدة وقوالبها الحديثة المولودة من الشعراء الأتراك في الجمهورية التركية” ثم ضرب أمثلة لهؤلاء المجدّدين، من أمثال: (نسرين أربيل، أورخان حسن حسين، جوبان خضر حيدر، حمزة حمامجى أوغلو…)
ويذكر المعد والمترجم لهذه الباقات الشعرية من الأدب التركماني: إنّ الشعر التركي يعدّ ملهما للشاعر التركماني، ومصدرا من مصادر ثقافته الشعرية، يقول م.د. ڕاويار جباري: (إنّ الشعر التركي بشكل عام كان له أثر كبير في نفوس الشعراء التركمان، وكانوا معجبين بالحركات أو التيارات، وحتى المجموعات الشعرية والأدبية التركية على وجه الخصوص…) ثم انبثق أوّل تيار شعري، أو حركة داخل الشعر التركماني في عام 1990 باسم الشفق. هذا التيار كان شعاره التجديد في المضامين والقوالب الشعرية داخل الشعر التركماني. وأهم رواد هذا التيار الأدبي هم الثلاثي (نصرت مردان، وأ.د. محمد عمر قازانجى، وعصمت ئوزجان)، وقد جمعوا أشعارهم التي سبقوا أن نشروها في الصحف والمجلات في ديوان شعري موحّد تحت مسمّى: (شفق)، وطبع عام 1990 م سنة ولادة التيار، وعبروا في بيان شعري عن رؤاهم في كلام مشترك تحت خيمة شفق من دون المساس بالشعر الكلاسيكي والأدب الشعبي -القوريات-.
إلا أن الزمن شهد اختفاء هذا التيار رويدا رويدا وعدم تأثيره على آخرين، وإنما كان تأثيرا في محيط الشعراء الثلاثة فقط ثم توارى من غير صدى، على الرغم من كونه التيار الشعر المجدّد الذي تفرّد بوجوده في تأريخ الأدب التركماني الحديث. الإ هذا التواري لجماعة الشفق لم يمنع من ظهور نواة فئة مثقفة مختلفة بين الشعراء بالأخص. وهي فئة تأثرت بآداب الشعوب الناطقة بالتركية في المضامين والقوالب الشعرية والمفاهيم، وكلّ ماهو متجدّد في أفكار وأشعار هذه الشعوب… إلاّ أنّانرى -مقدّم المجموعة- ليس بالشعر وحده يمكن امتلاك ناحية الأدب والثقافة إذا لم نطعم هذا الأدب بالمسرح والقصة والرواية والنثر بأنواعه، وهو ما أشار إليه أ.د. محمد عمر قازانجى، بقوله: “ستون بالماْئة من كتبنا المطبوعة والمنشورة حتى الآن كتب شعرية.”
هذا، أما منهج م.د. ڕاويار جباري في إعداد وترجمة هذه الباقة الشعرية فهو بيان حول الشاعر، ووظيفته التي شغلها في مسيرته حتى سن التقاعد إن كان موظفا، والمدارس التي درس فيها، ثم وفاته -لم قضى ومضى- ثم من كان له ديوان مجموع، ومن ليس له ديوان مطبوع، أو مجموعة شعرية وأثناء قراءتنا لهذا الكتاب -المترجم- وجدنا م.د. ڕاويار جباري أشار إلى (24) شاعراً لهم دواوين شعرية، و(8) شعراء ليس لهم ديوان مطبوع. وكالآتي:
- مصطفى كمال أحمد دندن أوغلو، ديوان واحد.
- قحطان هورموزلو، ديوان واحد بطبعتين.
- نسرين أربيل، أربعة دواوين.
- صلاح نورس، أربعة دواوين.
- أورخان حسن حسين، ستة دواوين.
- حمزة حمامجى أوغلو، ديوان واحد.
- رمزي جاوش، أربعة دواوين.
- أ.د. صبحي ساعتجى، ديوانان.
- عصمت ئوزجان، ديوانان.
- نصرت مردان، أربعة دواوين.
- أ.د. جوبان خضر حيدر، ثلاثة دواوين.
- قدرية ضيائى، ديوان واحد.
- أ.د. محمد عمر قازانجى، تسعة دواوين.
- رضا جولاق أوغلو، تسعة دواوين.
- منور ملا حسون، ديوانان.
- فاروق فائق كوبرلو، سبعة دواوين.
- نجم الديم بيرقدار، ديوان واحد.
- حسام حسرت، اثنان وعشرون ديوانا.
- ميسون محمد كركوكلى، ديوانان.
- قره وهاب، اثنا عشر ديوانا.
- كمال بياتلى، أربعة دواوين.
- د. مصطفى ضيائى، ستة دواوين.
- شمس الدين كوزه جى، خمسة دواوين.
- صلاح جامرجى، ستة دواوين.
أما الذين لا ديوان لهم مطبوع، أو مشترك مع سواهم، فهم:
- توفيق جلال أورخان.
- عنايت قوجاق.
- عبد الخالق بياتلى.
- عطا بزركان.
- فريال عزت محمد كتانه.
- أرشد هورموزلو.
- جلال بولات.
- أ.د. سهام زنكى.
وحبذا لو قامت أو أقدمت مؤسسة أدبية تركمانية بجمع أشعار هؤلاء الثمانية في ديوان، أو أقدمت أسرة ومعارف هؤلاء الشعراء بتسهيل مهام الجمع لشعر هؤلاء، وإعلام المؤسسات التركمانية، أو الأدباء للقيام بهذه المهمة، ولا سيما فيهم من مضى إلى حياة البرزخ تاركا من بعدهِ هذه الصدقة الأدبية لينتفع منها المتلقون سواءً داخل العراق، أم خارجه، ولاسيما قد دُرست دواوين عدد من الشعراء التركمان كرسائل جامعية، بل ترجمت إلى لغات شتى. وفي إشارة م.د. ڕاويار جباري خدمة ثقافية كبيرة لمن يريد الإسهام في هذا العمل سواء على مستوى المؤسسات أم الأشخاص في جمع أشعارهم وإيداعها في ديوان، وربّما اتسعت أشعار بعضهم لتشغل اكثر من ديوان. ومما نؤشر إثارته في هذا التقديم، هو التماس طلبا من المترجم الفاضل، هو كتابة دراسات نقدية، أو تحليلية للشعر التركماني مستقبلا، ولا سيما هو يمتلك ناصيتي العربية والتركمانية، وفي ضوء المذاهب الأدبية، أو المدارس النقدية، وأن تكون منهجا دراسيا في المدارس التركمانية، أو قسم اللغة التركية، والدكتور ڕاويار جباري تدريسي في هذا القسم يستطيع فعل الكثير لخدمة الأدب التركماني والثقافة التركمانية، ونأمل منه الكثير في التطوير والتجديد على مستوى الترجمة والتأليف والتدريس. وهو الذي ترجم للشاعر (شمس الدين كوزه جى) الذي ينشد، ويصدح بقوة:
علينا،
أن نُنجزَ
أعمالا
كثيرة
نحن…
ولكن
حتى الآن
لم ننجزْ
أي شيء…
.م.م. بختيار حميد الطالباني.
جامعة چرمو، كلية التربية، قسم اللغة العربية.
24 كانون الثاني 2025.