پاكزة عارف بيرقدار أول سيدة تركمانية تم نَفيُها الى جنوب العراق
د. عاصف سرت توركمن
ممثل الجبهة التركمانية العراقية السابق في بريطانيا ثم أمريكا
التركمان من الشعوب العريقة التي استوطنت بلاد الرافدين قبل الاف السنين، وانتشروا في المناطق التي توافقت مع تضاريس آسيا الوسطى، الموطن الاصلي لمعظم القبائل التركمانية المهاجرة . وقد ساهم التركمان مساهمة فعلية في بناء ونهضة العراق من خلال الدويلات الست التي حكمت العراق عبر عصور مختلفة حيث ظهر ثقلهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي والعسكري والديني في كافة المجالات ، وحكموا العراق لقرون طويلة .
يقطن التركمان في منطقة “توركمن إيلي” أو أقليم التوركمان، وهو الشريط الاستراتيجي الفاصل بين المنطقة الكردية في أقصى شمال العراق والمناطق العربية في الوسط والجنوب ، ويبدأ إمتداد هذا الشريط من قضاء تلعفر في شمال غرب العراق الى مندلي و”قزانيه” في جنوب شرق العراق مروراً بمحافظة نينوى ومدينة أربيل، وكركوك ، وبغداد ، وصلاح الدين ، وديالى وواسط .
لعب التركمان دوراً سياسياً في تاريخ وسياسة العراق، وقدموا الضحايا والشهداء دفاعاً عن تربة الوطن، وكانوا الصوت الصارخ والجدار الصلب بوجه الاعداء ، والسيف المسلول لقطع دابر كل من يحاول تقسيم العراق، كما وأكد التركمان على تجميع الصف الوطني العراقي في المؤتمرات والندوات التي عقدت في لندن وواشنطن وصلاح الدين .
إن قصة معاناة التركمان في العراق قصة طويلة لا تسعها الكتب والمجلدات، وعانوا الكثير من الظلم والاضطهاد والتشريد ، ولا يزالون يعانون من التمييز والاجحاف وسلب الحقوق المشروعة . وقد نالت العوائل التركمانية نصيبها من الظلم والاضطهاد والتشرد قرابة أربعة عقود من الزمن، وما من بيت تركماني الا وكان فيه إما شهيد أو مسجون ومفقود ، وتم نفي ذوي الشهداء من المعلمين والمدرسين والموظفين الى المحافظات الجنوبية لذنب لم يقترفوه ، وتصدرت السيدة پاكزة عارف بيرقدار قوائم المنفيين من كركوك ، وهي أول سيدة تركمانية تم نفيها الى جنوب العراق .
تنتسب السيدة پاكز عارف الى عشيرة “البيرقدار” المعروفة في العراق، وقد سكنت هذه العشيرة منطقة المصلى في الصوب الكبير من مدينة كركوك وفي محلة” پيريادي” . وقد أنجبت هذه العشيرة شخصيات تركمانية خدمت في سلك العسكرية والتعليم والتجارة وفي السلك الاداري، وقدمت الشهداء وهم يدافعون عن تربة العراق .
وُلدت السيدة پاكزة عارف عام 1939م في محلة “پيريادي”، وكانت الفتاة الوحيدة في الأسرة بين إخوتها الأربعة (أنور ، نظام الدين، إحسان وأسعد رحمهم الله جميعاُ) . نشأت پاكزة عارف بيرقدار في بيت والدها المرحوم عارف آغا بيرقدار الذي كان مختار محلة “پيريادي”، وكان والدها المرحوم من أعيان مدينة كركوك . أكملتْ مراحل دراستها الابتدائية والمتوسطة في مدارس كركوك ، وتخرجت من دار المعلمات عام 1960م . بدأت في العمل السياسي منذ فترة شبابها ، والتحقت بصفوف التنظيمات السرية التركمانية ، وناضلت مع ثلة من النساء التركمانيات من أجل إحقاق الحقوق المغتصبة . تزوجت من ابن خالتها المرحوم الاستاذ صبحي محمد فاتح الذي كان ينتسب الى عشيرة “سياه منصور” التركمانية ، وقد وزعت حبها وحنانها بين اثنين من أبنائها شاهين آغا ومحمد آغا وطلابها الذين تثقفوا على أيديها .
بدأت السيدة پاكزة عارف في حياتها الوظيفية في مدرسة النضال الابتدائية للبنات في كركوك ، ولإخلاصها في عملها فقد تم ترقيتها الى معاونة مدرسة 14 رمضان الابتدائية ثم الى مديرة مدرسة الرياحين للبنات وخدمت فيها لمدة عشرين عاما .
بدأت السلطة السابقة بمراقبة تحركاتها في بداية عام 1970م بعد أن قدمت عائلتها شهيدها الاول وشقيقها الدكتور نظام الدين عارف بيرقدار الذي كان وكيلاً لوزير الاقتصاد في عهد الرئيس العراقي الراحل عبدالرحمن عارف . وقد تم إعتقاله في الحادي والعشرين من شهر كانون الثاني (يناير) عام 1970م في بغداد ، وتم اعدامه مع مجموعة من الضباط والمدنيين بتهمة التآمر على الحزب الحاكم . وكان الشهيد من الناشطين الذين ضحوا من أجل القضية التركمانية ، وتمت مصادرة معظم أمواله المنقولة وغير المنقولة ، ولم يُسمح لعائلته باقامة مراسيم الدفن والفاتحة . وعانت عائلة الشهيد معاناة كبيرة حيث تم نقل معظم أفرادها الى مناطق خارج بغداد مع تنزيل درجاتهم الوظيفية .
قدمت عائلة المرحوم عارف آغا بيرقدار لفيف من أبنائها شهداء للوطن، ففي خلال الحرب العراقية الايرانية وعندما كان القصف متبادل بين الطرفين سقط صاروخ على بيت المقدم إحسان عارف أغا بيرقدار الشقيق الثاني للسيدة پاكزة عارف وأدى الى استشهاد كريمته ونجله ، وبينما كانت الحرب على أشدها كان الرائد كمال أنور عارف آغا بيرقدار مرابطاً على الحدود الشرقية للعراق ويدافع ببسالة عن شرف الوطن وتربته ، ووقع شهيدا وفاضت روحه الطاهرة الى خالقها .
لم تاخذ السلطة السابقة بنظر الاعتبار كل التضحيات التي قدمتها عائلة البيرقدار من الضحايا والشهداء ، وبدأت أنظار السلطة تتجه نحوها وتم تهديدها بإعادتها كمعلمة في مدرسة نائية ، وتم استدعائها للتحقيق معها لعدة مرات ، وتم نقلها كمعلمة الى مدرسة معن بن زياد في منطقة “البارود خانة” التي كانت تقع في نهاية منطقة الاسكان في كركوك ووضعت تحت المراقبة الشديدة . وبدأت المضايقات تتزايد من جديد وخاصة من قبل مديرة المدرسة الموالية للسلطة السابقة وعليه امتنعت السيدة پاكزة عارف عن الدوام وقدمت إستقالتها ، وقامت السلطة بمداهمة بيتها ونقلها الى محافظة صلاح الدين، وبقيت في مدينة تكريت حتى العام 1986م ، وتم نقلها منها الى مدينة السماواة في محافظة المثنى حيث صدر أمر نقلها من ديوان رئاسة الجمهورية وبقيت فيها حتى تم إحالتها الى التقاعد .
بدأت السيدة پاكزة عارف بيرقدار بنشاطاتها السياسية مجداً بعد سقوط السلطة السابقة ، وساهمت في جميع النشاطات والفعاليات السياسية التي قامت بها الجمعيات النسائية التركمانية ، وعملت أيضا في صفوف حزب القرار التركماني حتى أصيبت بمرض أقعدها في الفراش .
إن سيرة حياة السيدة پاكزة عارف بيرقدار مثال للنضال والمعاناة … ومثال لمعاناة النساء التركمانيات اللواتي تعرضن الى الظلم والاجحاف وجاهدن مع إخوانهن لنيل الحقوق المغتصبة .
ملاحظة : نشر المقال الاصلي لاول مرة في صحيفة “صوت التركمان” التي كانت تصدر في ألمانيا في آب “أغسطس” عام 2003م ، ص 4 ، العدد: 15، وفي عدد من المواقع الالكترونية .